المادة    
ثم أضافت الكنيسة إلى قتل هذا التطلع وهذه المواهب أمراً آخر مهماً: وهو أنها حاربت العلم والعلماء، فأول النظريات التي اصطدمت بالكنيسة هي النظريات الكونية التي جاء العلم ليثبت صحتها بالجملة، مع أن النصرانية يوجد فيها بعض الحق في بعض الجوانب الأخلاقية من تربية الإنسان على: ألا يرائي، وألا يغش، وألا يكذب، وأن يتحلى بالأخلاق، فهذه موجودة في النصرانية المحرفة.
واصطدمت النصرانية بما فيها من حق بالنظريات التي ثبتت صحتها أول الأمر، فاصطدمت بنظرية كوبر نيكوس في الكون وفي المجموعة الشمسية، وكذلك نظرية جاليليو في دوران الأرض، ثم نظرية نيوتن في الجاذبية أو الأجرام السماوية، وهي امتداد لنظرية كوبر نيكوس، لما اصطدمت هذه النظريات بالكنيسة، وأثبتت علوم الرياضيات والتجربة الحسية صحتها في الجملة، هزمت الكنيسة بحقها وباطلها في هذه المعركة، فظهرت بعد ذلك النظريات الإنسانية -التي ثبت زيفها وبطلانها- وقاس الناس النظريات الإنسانية على النظريات الكونية، فقالوا: العلم على صواب دائماً، والكنيسة والدين على خطأ دائماً.
  1. ظهور النظريات المادية

    أهم نظرية في هذا المجال هي نظرية داروين، وتفرعت وتشعبت منها النظريات النفسية والاجتماعية والتربوية الكثيرة جداً، ومن أهم النظريات التي انشقت من الداروينية، النظرية المادية التي طغت على فكر القرن التاسع عشر، فظهر كارل ماركس وقال: لا تؤمنوا بالغيب، وآمنوا بالمادة وبالشيء المحسوس الذي لا يكلفكم شيئاً، أما عالم الغيب الذي تقوله الكنيسة فلا دليل على إثباته، وكله أساطيره، وهذا امتداد لنظرية هيجل وغيره، ثم ظهرت النظريات في التربية مثل نظرية التحليل النفسي، التي قال بها اليهودي فرويد، الذي فسر الدوافع الإنسانية بأن الإنسان بكامل نشاطاته، وبكل آماله، وأحلامه، وتطلعاته، وحضاراته، وبنائه، وتراثه، دوافعه في كل ذلك غريزة واحدة من غرائزه،هي الغريزة الجنسية! هكذا فسرها فرويد.
    ثم جاء ما هو أدهى من ذلك وأطم، المدرسة السلوكية التي تفسر الإنسان تفسيراً حيوانياً وآلياً معاً، أي التي لا تجعل للعقل أي دور، وإنما التحكم والتوجيه للغريزة الحيوانية البحتة، فهربوا من الإيمان بالغيب، والإيمان بإله الكنيسة، وأثبتوا أن الإنسان حيوان! فخططوا ونظروا على هذا الأساس، فكثير من علوم النفس، والتربية، والاجتماع، وعلم النفس التكويني تطبق النظريات الحيوانية على الإنسان، فتطبق التجربة على الكلاب، أو القرود، أو الفئران، أو الأرانب، والنتيجة تطبق على الإنسان، فيغفل جانب عظيم جداً، وجانب مهم وهو: إنسانيته، وروحه، وقلبه، وتبقى الأمور متعلقة فقط بالأعصاب، والميكانزم العصبي، وبالنواحي العضوية، الفسيولوجيا العضوية البحتة، وليس للروح ولا لعالم الغيب أي دخل أو مجال فيها.
    وهكذا توسعت النظريات على اختلافها، وإذا بنا نجد أن الإنسان لا يشكل إلا كومة من اللحم والدم والعظم يوضع على منصة التشريح، ثم يراد أن يخطط له اجتماعياً، وسلوكياً، وأخلاقياً، حتى الفنون وحتى الآداب أريد لها أن تنتكس لتخضع لكل تلك المعايير السابقة، ولا شك أنها نكسة كبرى ابتليت بها الإنسانية.
  2. سقوط الشيوعية لتنكرها للدين

    إن الفنون وحتى الآداب أريد لها أن تنتكس لتخضع لكل تلك المعايير السابقة، ولا شك أنها نكسة كبرى ابتليت بها الإنسانية، ومن فضل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أن إحدى النظريتين الغربيتين الكبيرتين قد انهارت وهي النظرية الشيوعية الماركسية فعندما كنا نتحدث عن هذه النظرية قبل سنوات، قبل ظهور جورباتشوف والبروسترويكا، كنا نحتاج أو نضطر أن نتكلم عن خلل وفساد الشيوعية، ومنافاتها للفطرة، وأنها لا تصلح أن تكون نظريةً اقتصاديةً، ولا اجتماعيةً، ولا تربوية، فضلاً عن أنها تصلح أن تكون عقيدة كما أراد أصحابها، أو نظرية في الأدب والفن اللذين هما أعمق وأعقد من أن تدخلها أي نظرية تجريبية عادية، كنا نحتاج إلى ذلك، وإذا بنا نرى انهيارها.
    فالثورة الشيوعية قامت وحكمت روسيا في عام (1917م)، والبروسترويكا -أي إعادة البناء- أعلنت في عام (1985م)، فهذه المدة في عمر الأمم قليلة جداً، مثل أي دولة من الدويلات التي قامت في تاريخنا الإسلامي استمرت ستين أو سبعين سنة لا يكاد يؤرخ لها، أو لا تذكر إلا عرضاً، وإن كنا نحن الآن نرى الشيوعية بهذه الضخامة لأننا نعيش في الواقع، لكن بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة، سيقال ظهرت في القرن العشرين أو في أوله نظرية، وفي الربع الأخير منه سقطت، وكان اسمها الشيوعية.
    فـالشيوعية سيطرت وكادت أن تتحكم في ثلث البشرية تقريباً، وجعلت نفسها عقيدة عامة في التربية وفي كل نواحي الحياة، لكنها سقطت، وهذا السقوط نتيجة لافتقارها للإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وستسقط أكثر فأكثر، ولن ينفعها أي إصلاح أو ترقيع إلا بأن تعود إلى الله، وتؤمن إيماناً حقيقياً، لا كما عبر جوربا تشوف وقال: ''الحل بالعودة إلى تراثنا وإلى مسيحيتنا'' فنقول له: إن مسيحيتك هي التي فررت منها أولاً والتي فر منها كارل ماركس، عندما كان يقول: ''المادة هي هذه الأشياء'' .
  3. العلم يثبت الغيب

    وعلق على تلك النظريات العلماء -علماؤهم الآن- وقالوا: هذا كلامٌ مضحك، لأنهم اكتشفوا أن هناك موادَّ غير محسوسة، واكتشاف أن الذرة ليست أصغر شيء في الكون، وإنما الذرة عبارة عن: نواة ويدور حولها إلكترونات سالبة وبروتونات موجبة، عالم غريب جداً، إنهم يتكلمون عن الطاقة والحركة، وهي أمور غيبية والقضية الآن هي في عالم الغيب، فلم يعد الكلام عن الملائكة، ولا عن الجنة، ولا عن النار، ولا عن ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل الآن عالم الغيب بالنسبة لهم هي هذه المادة، فهم يبحثون عن سرها وتركيبها وتكويناتها، بل يقولون: لو أخذت أي جزيء من هذه الجزيئات في أي شيء وكبرته تكبيراً كبيراً جداً، لوجدت نفسك ترى فراغات هائلة ولا ترى المادة، فدفعتهم هذه الاكتشافات للعودة مرة أخرى للإيمان بالغيب من جهة أخرى.
    فالطلاب في كلية العلوم وغيرها يدرسون النواة، والذرة، والإلكترونات السالبة والبروتونات الموجبة، فيؤمنون بها دون أن يروها أو يحسوها، إذاً: فالقضية أصبحت قضية إيمان بالغيب، وإن كانوا في الأصل هربوا منه، لكن الفطرة أعادتهم. وهناك حقيقة لاشك فيها، وهي: أن ترك التوحيد هو وراء كل انحسار لأي مذهب من المذاهب.
    ونذكر قصة للرئيس الأمريكي جورج بوش، عندما كان سفيراً لدولته في الصين -في الحقيقة أنه كان جاسوساً كما يبدو- وكما عبر في كتاب التطلع إلى الأمام، فذكر قصة طريفة في كتابه الذي صدر حديثاً يقول في (ص195) معبراً عن لقائه هو وكيسنجر، وووستن لورد مع ماوتسي تونغ -الزعيم الشيوعي الكبير- بعد أن ضعف وأصبح صنماً مهترئاً لا قيمة له، ولكن الصينيين يقدسونه ويعبدونه، حتى إنه كان لا يتكلم إلا بإشارات خفيفة , وتتقطع منه الكلمات من كبر سنه، يقول بوش عن ذلك اللقاء: ''مع مرور وقت الاجتماع ظهر أن ماو أصبح أقوى وأكثر تيقظاً، أشار بيديه مراراً، وحرك رأسه من ناحيةٍ إلى أخرى، وظهر بأن الحديث يحفزه'' أي: ينشط مع انفعالات الحديث مع أنه لا يقدر أن يتكلم ولا يعبر، قال: ''واستمر يشير في أحاديثه إلى الله'' هذا ماو، والراوي جورج بوش فالسند عالٍ!!
    يقول: ''إذ علق مرةً قائلاً، لـكيسنجر وبوش: إن الله يبارككم ولا يباركنا، إن الله لا يحبني لأنني قائد عسكري وشيوعي -يقول عن نفسه- كلا إنه لا يحبني، إنه يحبكم أنتم الثلاثة، وأشار برأسه إلى كيسنجر، وووستن لورد، وإليَّ'' هكذا يقول الرئيس بوش عن ماو الذي كان في تلك الأيام، في عالمنا الإسلامي، بل في جزيرة العرب هنا وفي إحدى الدول التي قدّر لنا أن نذهب في رحلة جامعية إليها تخرج مظاهرة، ويقولون: لا إسلام بعد اليوم، ماو رب الكادحين -تعالى الله عما يقولون!- هذا المسكين الذي يحاول أن يعبر لـبوش أنكم طيبون أنتم يا أمريكان لأنكم نصارى، أما هو يقول عن نفسه: إنه شيوعي فلن يباركه الله! ونحن نعرف أنه لا بارك لا في بوش ولا ماو، ولكن بالنسبة لـماو يعتذر لـبوش أنه صاحب دين فهو خير منه، فهذا هو قائد نصف العالم الشيوعي في زمنه، وهذا تعبيره، وهذه حسرته، حسرة الكافرين في الدنيا، فما بالكم بحسرتهم يوم القيامة، بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى!
    هذا التحسر على هذا العمر الذي ضاع على نظريات قتل من أجلها الملايين في الصين وفي الاتحاد السوفييتي وخاصة من المسلمين، قتلوا من أجل هذه النظريات، ثم تكون النتيجة بعد هذه التضحيات، وبعد إهدار الطاقات، وبعد الجهود الكبرى تكون النتيجة والنهاية أن هذا الزعيم يتحسر ويتمنى، كما قال الله عنهم: ((رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ))[الحجر:2] الله أكبر!! سبحان الله! كيف تستيقظ الفطرة ويستيقظ نداؤها؟!
  4. الغرب والدين

    أما في الغرب فيمكن أن نقدم نصاً واحداً فقط يبين لنا نظرتهم في مسألة الإيمان بالله، وحجمها في الحكمة الغربية أو في الفلسفة الغربية، ثم بعد ذلك أنقل لكم بعض نصوص ما قاله هذان المؤلفان. يقول هان ترينج في كتابه: الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (ص38): ''يتميز موقف الفيلسوف على خلاف موقف الديني'' فانظروا الفصل هنا فيلسوف وهنا ديني، أي: أنّ أيَّ مفكر عندهم يستخدم عقله في التفكير مجرداً عن الدين يعتبرونه فيلسوفاً، فكأنه من المستحيل أن يكون مفكراً دينياً، فيقول: ''يتميز موقف الفيلسوف على خلاف موقف الديني بأنه موقف نظرٍ وتجردٍ خالص''.
    أي يتجرد بالكلية عن دينه وهو الأساس، وإن كانوا -أيضا- يقولون: وعن مشاعره، لكن لا يمكن أن يكون هناك تفكير موضوعي بحت على الإطلاق، ثم يقول: فهو يرى أن مسألة الله تبارك وتعالى بأسرها من حيث وجوده وطبيعته هي مسألة مفتوحة تماماً، فالفلسفة لا تعرف أموراً مقدسة لا يمكن الاقتراب منها، والمفكر الميتافيزيقي -أي الذي يبحث في عالم ما وراء الطبيعة- لا يشعر عند لمعالجته لمفهوم الكائن الأسمى -أي: الله تبارك وتعالى- بخشوعٍ يزيد على ما يشعر به إزاء أية مسألة أخرى، فهو عندما يتكلم عن الله لا يوجد أي خشوع، فهو يتكلم عن الله، أو عن الإنسان، أو عن القذر، أو الأميبيا، أو أي شيء آخر لا فرق عنده؟ نعوذ بالله! انظر مضادة ومحادة الفطرة، إلى أن يقول: ''وكما يقال أحياناً على سبيل المزاح: حتى الله نفسه ينبغي أن يقدم أوراق اعتماده أمام مدخل مدرج الفلسفة'' تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً!!
    فلا شيء عندهم إلا ويخضع للعلم في نظرهم، وللفلسفة، وللبحث، فليس هناك شيء مقدس -لا نص مقدساً، ولا نظرية مقدسة، ولا رجال مقدسين- بل كل شيء يجب أن يخضع في نظرهم للعلم، وفصلٌ تام بين هذا العلم وبين الإيمان الديني.
    وهذا الكلام وإن كان يقال على سبيل المزاح، وإن كان يقوله بعض المنتمين للإسلام أيضاً! ولكن الله تبارك وتعالى يقول: ((وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ )) [التوبة:65-66].
    فعندما يتعلق الأمر بالله تبارك وتعالى، وبصفاته، وبالدين، وبالإيمان؛ فإن المسألة جدٌّ كلها ولا حاجة للمزاح، ولا يمكن أن تعتبر من المزاح.
  5. ظهور الحق على لسان الغرب

    أحد الباحثين المعاصرين اسمه بنفيل -وهذا مشهور في أمريكا- اشتغل بالبحث يقول: ''طوال حياتي العلمية سعيت جاهداً -كغيري من العلماء- إلى إثبات أن الدماغ يفسر العقل'' فهذا أساس من أسس التربية: أن الدماغ هو الذي يفسر العقل، أي: أن الجانب العضوي في الإنسان هو الذي يفسر الفكر والجانب التجريبي أو النظري.
    ويقول: ''غير أن الأدلة في آخر الأمر بعد البحث الطويل أوصلته إلى الإقرار بأن العقل البشري والإرادة البشرية حقيقتان غير ماديتين -ويعلن هذا فيقول- يا له من أمر مثير أن نكشف أن العالِم الآن يستطيع بدوره أن يؤمن عن حق بوجود الروح'' فهذا هو العالم عندهم وليس رجل الدين.
    بل ذكر أن أحد الكتاب الموافقين لـبنفيل في النتيجة نفسها قال: ''الإنسان في النظرة الجديدة ليس رزمة من ردود الفعل أو الدافع أو الآليات النفسية'' وهذا تعريض بالنظريات والتربويات السلوكية والتحليلية وأمثالها.
    يقول: ''ولا هو نتاج فرعي لقوىً خارجية فالنظرة الجديدة'' أي: نظرة النصف الثاني من القرن العشرين المبنية على الفيزياء، هذه النظرة الجديدة إلى الكون انبثق منها تصور في التربية، والأخلاق، والسلوك، والقيم، حتى في علم الجمال والفن والأدب، انبثاقاً كلياً يغاير النظرة القديمة التي قالها فرويد ومنها السلوكية، وكل النظريات التي لا تزال -مع الأسف- إلى الآن تدرس وتقرر في العالم الإسلامي.
    يقول: ''النظرة الجديدة تنشد نموذجاً إنسانياً لدراسة الإنسان، نموذجاً لم نستطع من دونه أبداً أن نمد يد العون للمحتاجين -ويحذرنا فرانك قائلاً:- لن نستطيع فعلاً أن نغيث الإنسان في ورطته إذا كنا نصر على أن تصورنا للإنسان ينبغي أن يصاغ على نمط نموذج الآلة، أو نموذج الجرم'' أي: إما الميكانيكية: وهي النظرية البحتة التي تجعل الإنسان كالآلة، وإما النظرية الحيوانية، التي تجعل الفأر، أو الأرنب، أو الكلب، أو أي حيوان آخر؛ هو النموذج التي تقاس عليه الدوافع والسلوك الإنساني.
    ويقول الكاتبان: ''لو كان الإنسان مجرد كائنٍ مادي -كما تزعم النظرة القديمة- لو كان كذلك لكان من المعقول أن نتخذ أشياء مادية أبسط كالآلات نماذج للسلوك البشري، فلكل آلةٍ دافعةٌ تشغلها كالبخار، أو الكهرباء، أو الاحتراق الداخلي -مثل السيارة لها احتراق داخلي- وعلى ذلك كان أهم عنصر في الإنسان وفقاً لعلم النفس في النظرة القديمة هو قوته الدافعة'' أي: الغريزة في عمومها، أم غريزة معينة كما تصور فرويد، أو أي أمر آخر.
    ويقول: ''والقوة المادية في الآلة الإنسانية تتخذ شكل غرائز وانفعالات هي مصدر جميع الأعمال التي يقوم بها الإنسان، أما العقل فلا يملك زمام الأمر؛ لأنه نتاج ثانويٌ للمادة -فبعد أن يتحدث عن فساد هذه النظرة، قال:- في أعقاب الحرب العالمية الثانية شعر كثير من علماء النفس أن إخضاع العقل للغريزة في طريقة التحليل النفسي وإلغاء العقل -كما هو الحال في السلوكية- قد أفضيا إلى تجريد الإنسان من إنسانيته في علم النفس، معتبرين أن هذا موقفاً لا يطاق في فرع من فروع المعرفة مكرسًا لخدمة الجنس البشري''.
    وقد عبر عن ذلك ركس كارل، وليكون نيوث في كتابه: مصير الإنسان، قال: ''إن الجبهة المادية من الحضارة تتقدم، وأما الجبهة الإنسانية فإنها في تأخر وتقهقر وتراجع كبير -ويقول:- وأخيراً التحمت في الخمسينيات من هذا القرن قوة ثالثة في علم النفس إلى جانب القوتين الأخريين: التحليل النفسي والسلوكية، هذه الحركة أتباعها لا يتكلمون بصوت واحد، ولا يشكلون مدرسةً فكرية مستقلة، ولاهم متخصصون في أي مجال ذي مضمون محدد'' أي: بدأنا نرجع إلى مسألة التوحد، فالتفرق الشديد يرجعهم في النهاية إلى الوحدة، إذاً القضية أصلها التوحيد، فهم يتشعبون ثم يرجعون إلى شيء واحد، وهم مختلفون جداً، ولكن يقول:
    ''إن كل ما يجمع بينهم هو الهدف المشترك المتمثل في أنسنة علم النفس'' أي: أن يصبح علم النفس علماً إنسانياً، فهو إلى الآن ليس إنسانياً بل حيوانياً أو آلياً، وبناءً عليه فكل النظريات التربوية تدرس الإنسان من زاوية الآلة أو الحيوان.
    ثم يقول: ''وفي اجتماع وطني للرابطة الأمريكية لعلم النفس، عقد في (1971م)، قررت هذه الحركة الجديدة أن تطلق على نفسها اسم: علم النفس الإنساني'' فانظر متى اكتشف الغرب أنه لا يملك علم نفس إنسانياً، ولا رابطة لعلم النفس الإنساني، وأنه في حاجة أن يتخلص من الورطة -كما يعبرون- وأن يبحث في ضوء جديد وعلم جديد، عرفوا ذلك عام (1971م).